فصل: تفسير الآيات (6- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير آيات الأحكام



.تفسير الآيات (6- 7):

قال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}
أي أسكنوهنّ بعض مكان سكناكم {مِنْ وُجْدِكُمْ} بدل: أو عطف بيان لقوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}. والوجد: الوسع، أي أسكنوهنّ من وسعكم، ومما تطيقونه.
وظاهر قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} يقتضي وجوب السكنى لكل مطلقة، سواء أكانت رجعية أم بائنا، وسواء أكانت حاملا أم غير حامل.
وظاهر قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} يقتضي بمنطوقه وجوب النفقة للمطلقات الحوامل، سواء أكنّ رجعيات أم بوائن، وبمفهومه عند القائلين به أنه لا نفقة لغير الحامل، سواء أكانت رجعية أم بائنا.
وقد أجمع العلماء على أنّ للرجعية السكنى والنفقة، أما السكنى فلقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} وقوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} أما النفقة فلأنّ الرجعية كالزوجة في بقاء حبس الزوج وسلطته عليها، فكان إجماعهم على وجوب النفقة لها، ولو لم تكن حاملا مخصّصا لمفهوم قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} لغير الرجعية عند القائلين بالمفهوم.
وكذلك على أن للبائن الحامل السكنى والنفقة، لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ}.
أما البائن غير الحامل فقد اختلف العلماء في سكناها ونفقتها على ثلاثة أقوال:
أحدها: وجوب السكنى والنفقة.
والثاني: عدم وجوبهما.
والثالث: وجوب السكنى دون النفقة.
فأما وجوب السكنى والنفقة فهو قول عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وكثير من فقهاء الصحابة والتابعين. وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وسائر فقهاء الكوفة: احتجوا لوجوب السكنى بقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} فهو أمر بالسكنى لكل مطلقة. ولوجوب النفقة بأنها جزاء الاحتباس، وهو مشترك بين الحائل والحامل، ولو كان الإنفاق جزاء للحمل لوجب في ماله إذا كان له مال، ولم يقولوا به.
وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} ليس للشرط فيه مفهوم مخالفة، بل فائدته أن الحامل قد يتوهم أنها لا نفقة لها لطول مدة الحمل، فأثبت لها النفقة، ليعلم غيرها بطريق الأولى فهو من مفهوم الموافقة. وقد قال عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلّى الله عليه وسلّم لقول امرأة لا ندري جهلت أم نسيت. يريد قول فاطمة بنت قيس حين طلّقها زوجها البتة: لم يجعل لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سكنى ولا نفقة.
وأما القول بأنها لا سكنى لها ولا نفقة فهو مروي عن ابن عباس وأصحابه، وجابر بن عبد الله، وفاطمة بنت قيس من فقيهات نساء الصحابة، وكثير من التابعين، وإليه ذهب إسحاق وداود وأحمد وسائر أهل الحديث، وحجتهم في ذلك حديث فاطمة بنت قيس الذي اتفق على صحته المحدثون.
أخرج مسلم وغيره عن فاطمة بنت قيس أنّ أبا عمرو بن حفص طلّقها البتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله مالك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرت ذلك له فقال: «ليس لك عليه نفقة».
وفي رواية: «لا نفقة لك ولا سكنى»، وفي أخرى للنسائي: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة».
وقالوا: وقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} إنما هو في الرجعيات خاصة، لأنّ الله تعالى ذكر للمطلقات في هذه السورة أحكاما متلازمة، لا ينفك بعضها عن بعض:
أحدها: أن الأزواج لا يخرجوهن من بيوتهن.
والثاني: أنّهن لا يخرجن.
والثالث: أنّ لأزواجهن إمساكهن بالمعروف قبل انقضاء الأجل، أو فرقتهن بالمعروف.
والرابع: إشهاد ذوي عدل، وهو إشهاد على ما اختار من الرجعة والفرقة، وأشار سبحانه إلى حكمة ذلك، وأنّه في الرجعيات خاصة بقوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} والأمر الذي يرجى إحداثه هاهنا هو المراجعة، كما قال السلف، ثم ذكر سبحانه الأمر بإسكان هؤلاء المطلقات فقال: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} فكان الظاهر من سياق الكلام ونظمه أنّ الضمائر كلها متّحد مفسرها، وأحكامها كلها متلازمة. وكان قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة».
مفسّرا لكتاب الله، ومبيّنا للمراد منه، وأنّ الأمر بالإسكان إنما هو في خصوص الرجعيات.
قالوا: ولو سلمنا أنّ الآية عامة في الرجعيات والبوائن لكان الحديث مخالفا لعمومها، وحينئذ يكون الحديث مخصصا لعموم الآية، فحكمها حكم تخصيص العام من الكتاب بالخاص من السنة، وهو كثير.
قالوا: وإذا بانت المرأة من زوجها صارت أجنبية، ولم يبق إلّا مجرد اعتدادها منه، وذلك لا يوجب لها نفقة كالموطوءة بشبهة أو زنى، ولأنّ النفقة إنما تجب في مقابلة التمكين في الاستمتاع، والبائن لا يمكن استمتاعه بها بعد بينونتها، ولأنّ النفقة لو وجبت عليه لأجل عدتها لوجبت للمتوفى عنها من ماله، ولا قائل به.
وأما القول بأنّ لها السكنى دون النفقة: فهو رأي فقهاء المدينة، وإليه ذهب مالك والشافعي، واحتجوا لوجوب السكنى بظاهر العموم في قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} ولعدم وجوب النفقة بحديث فاطمة بنت قيس مع ظاهر قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فإنّ مفهومه أنهنّ إذا لم يكن حوامل لا ينفق عليهن، قالوا: وحديث فاطمة صحيح لا ننكر صحته، ولكنه قد خالف في السكنى ظاهر العموم في قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} ويجب قبيل القول بالتخصيص أو النسخ الجمع بين الحديث والآية ما أمكن. وقد جاء في الصحيحين عن عائشة وغيرها أنّ فاطمة كانت امرأة لسنة، وأنها استطالت على أحمائها، فأمرها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالانتقال من مسكن فراقها.
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إنّ فاطمة كانت في مكان وحش، فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص النبي صلّى الله عليه وسلّم لها.
وفي صحيح مسلم عن هشام عن أبيه عن فاطمة نفسها قالت: قلت: يا رسول الله، زوجي طلّقني ثلاثا، وأخاف أن يقتحم علي، قال: فأمرها فتحوّلت. فلما كان من الممكن حمل إسقاط السكنى في الحديث على أنّه كان لاستطالتها على أحمائها، أو لخوفها أن يقتحم عليها، أو لهما معا، تعيّن تأويل الحديث على هذا المعنى، للجمع بينه وبين الآية، وصار المراد من الحديث أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أذن لها في الانتقال لعذر، وهذا لا ينافي وجوب السكنى للمعتدة البائن.
قال الجصاص في حديث فاطمة بنت قيس: وهذا حديث قد ظهر من السلف النكير على راويه، ومن شرط قبول أخبار الآحاد تعرّيها من نكير السلف. اهـ.
ولما كان هذا ردّا لحديث صححه المحدثون، وأخذ به جمع من الفقهاء والأئمة العارفين بعلل الأحاديث وطرق الجرح والتعديل، أحببنا أن نذكر خلاصة للمطاعن التي وردت على هذا الحديث مع بيان ما فيها.
روى مسلم في صحيحه عن الأسود بن يزيد أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال- وقد ذكر له قول فاطمة بنت قيس-: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}.
وروى ابن حزم في المحلى والجصاص في أحكام القرآن عن حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان أنه أخبر إبراهيم النخعي بحديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس، فقال له إبراهيم: إنّ عمر بن الخطاب أخبر بقولها فقال: لسنا بتاركي آية في كتاب الله وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لقول امرأة لعلها أوهمت! سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لها السكنى والنفقة».
وفي النسائي أن الأسود بن يزيد سمع الشعبي يحدّث بحديث فاطمة بنت قيس، فأخذ كفا من حصباء فحصبه وقال: ويلك لم تفتي بمثل هذا؟ قال عمر رضي الله عنه: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلا لم نترك كتاب ربنا لقول امرأة.
وروى مسلم في صحيحه أن مروان بن الحكم قال في حديث فاطمة: لم نسمع هذا إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها.
وحاصل هذه المطاعن يرجع إلى أربعة أمور:
الأول: أنّ راويته امرأة.
والثاني: أنّها لم تأت بشاهدين يتابعانها على حديثها.
والثالث: أن روايتها تضمنت مخالفة القرآن.
والرابع: أن روايتها خالفت السنة.
فأما أنها امرأة، فإنّ ذلك لا ينبغي أن يعدّ مطعنا، فإن أحدا من أصحاب الجرح والتعديل لم يقل بأنّ الأنوثة من الأمور التي تردّ بها الرواية، ولم يختلفوا في أنّ السنن تؤخذ عن المرأة كما تؤخذ عن الرجل، وكما أنّ في الرجال عدالة وضبطا كذلك في النساء عدالة وضبط، وكم من سنة تلقتها الأئمة بالقبول عن امرأة، وهذه مسانيد نساء الصحابة بأيدي الناس، لا تشاء أن ترى فيها سنة تفرّدت بها امرأة منهنّ إلا رأيتها.
وأما أنّها لم تأت بشاهدين، فذلك أيضا ليس بجرح ترد له الرواية، ولم يشترط أحد في الرواية نصابا، ولم يكن طلب عمر الشهادة على الرواية وكذلك تحليف عليّ كرّم الله وجهه، إلا تثبتا منهما رضي الله عنهما، حتّى لا يركب الناس الصعب والذلول في الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقد نقل مثل ذلك عن عمر رضي الله عنه في حديث أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتّى شهد له أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وفي حديث المغيرة بن شعبة في إملاص المرأة حتى شهد له محمد بن مسلمة كلّ ذلك كان تثبتا منه رضي الله عنه، وتحذيرا من الإكثار في الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأنّه كان يعتبر الشهادة شرطا في قبول الرواية، وإلا فقد قبل عمر خبر الضحاك بن سنان الكلابي وحده، وقبل لعائشة رضي الله عنها عدّة أخبار تفرّدت بها.
وأما أن روايتها تضمنت مخالفة القرآن، فقد أجبنا عنه في تقرير مذهب أهل الحديث في سكنى البائن ونفقتها، وحاصله أنّ الآية إما أن تكون خاصّة بالرجعيات كما هو ظاهر السياق، وإما أن تكون عامة في الرجعيات والبوائن.
فإن كانت خاصة بالرجعيات فلا مخالفة بينها وبين حديث فاطمة، وهو ظاهر، وإليه ذهب الإمام أحمد، رحمه الله، روى عنه أصحابه أنّه أنكر هذا من قول عمر، وجعل يتبسم ويقول: أين في كتاب الله إيجاب السكنى والنفقة للمطلّقة ثلاثا؟ وأنكرته قبله الفقيهة الفاضلة فاطمة بنت قيس راوية الحديث، وقالت: بيني وبينكم كتاب الله، قال الله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} وأي أمر يحدث بعد الثلاث؟
وإن كانت الآية عامة في الرجعيات والبوائن، فليس هذا أوّل موضع خصّص فيه الكتاب بالسنة، فآية المواريث خصّصت بالسنة الدالة على أن الكافر والقاتل والرقيق لا يرثون، وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} [النساء: 24] خصّص بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها» الحديث.
وأما أنّ روايتها تضمنت مخالفة السنة فلا نجد سنة مخافة لحديث فاطمة، إلا روايتين عن عمر رضي الله عنه:
إحداهما: قوله لا ندع كتاب ربّنا وسنة نبينا، وهذا له حكم المرفوع.
والثانية: قوله سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لها السكنى والنفقة».
أما الرواية الأولى عن عمر فقد قال فيها الإمام أحمد رحمه الله: لا يصحّ ذلك عن عمر رضي الله عنه وقال أبو الحسن الدارقطني قوله: وسنة نبينا هذه زيادة غير محفوظة، لم يذكرها جماعة من الثقات، بل السنة بيد فاطمة بنت قيس قطعا، ومن له إلمام بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشهد شهادة الله أنه لم يكن عند عمر رضي الله عنه سنة عن رسول الله أنّ للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة.
وأمّا الرواية الثانية: فلم يخرّجها فيما نعلم إلا ابن حزم والجصّاص عن حماد عن إبراهيم أنّ عمر إلخ ومعلوم أنّ إبراهيم لم يولد إلا بعد وفاة عمر بسنين، فالخبر منقطع، وقد أنكره علماء الحديث، وصرّح ابن القيم بأنّه مكذوب على عمر، وأنه لو كان هذا عند عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لخرست فاطمة وذووها، ولما فات هذا الحديث أئمة الحديث والمصنفين في السنن والأحكام، فإن كان مخبر أخبر به إبراهيم عن عمر رضي الله عنه، وأحسنّا به الظن، كان قد روى قول عمر بالمعنى، وظنّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمبتوتة حين قال عمر: لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة.
وقد تناظر في هذه المسألة ميمون بن مهران وسعيد بن المسيّب فذكر له ميمون خبر فاطمة بنت قيس فقال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس.
فقال له ميمون: لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما فتنت الناس، وإنّ لنا في رسول الله أسوة حسنة. اهـ.
ولا نعلم أحدا من الفقهاء إلّا وقد احتجّ بحديث فاطمة بنت قيس هذا، وأخذ به في بعض الأحكام. وقد ذكر النووي في شرحه على صحيح مسلم ستة عشر حكما استنبطها العلماء من هذا الحديث.
وإذا قد تبيّن أنّ هذه المطاعن مردودة ولم يقدح شيء منها في صحة الحديث لزم القائلين بوجوب السكنى والنفقة للمبتوتة أن يجمعوا بينه وبين الآية ما أمكنهم الجمع، وإلا فالنسخ أو التخصيص.
وقد سلك الجصاص في تأويل الحديث طريقة أقرب إلى الصواب، وأخفّ في الاستهجان من رد الحديث وإنكاره، والطعن فيه بغير مطعن، قال: وللحديث عندنا وجه صحيح يستقيم على مذهبنا فيما روته من نفي السكنى والنفقة، وذلك أنّه قد روي أنها قد استطالت بلسانها على أحمائها، فأمروها بالانتقال، فلما كان سبب النقلة من جهتها، كانت بمنزلة الناشزة، فسقطت نفقتها وسكناها جميعا. اهـ.
والخطاب في قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} وقوله تعالى: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} للأزواج، فاقتضى ذلك بظاهره أنّ السكنى والنفقة إنما تكونان للزوجات المطلقات، لا المتوفى عنهن من الزوجات.
وقد روى الدارقطني بإسناد صحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس للحامل المتوفّى عنها زوجها نفقة».
فالمتوفّى عنها غير الحامل أولى ألا يكون لها نفقة.
ولا نعلم خلافا في ذلك إلا ما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان بوجوب النفقة للمتوفّى عنها من التركة، وظاهر الآية والسنة الصحيحة على خلاف ما يقولان.
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي فإن أرضعن لكم بعد انقضاء عدتهن بوضع حملهن فأدوا إليهنّ أجورهن على الإرضاع، والتزموا ذلك لهن.
دلّ هذا على أنّ الأمّ إذا رضيت أن ترضع ولدها بأجر المثل، فهي أحقّ به، لوفور شفقتها، فهي أولى بحضانته وإرضاعه من كل أحد، وليس للأب أن يسترضع غيرها حينئذ.
ودلّ على أنّ الأجرة إنما تستحق بالفراغ من العمل، لا بالعقد، لأنّ الله أوجبها بعد الرضاع، بقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}.
ودلّ أيضا على أنّ نفقة الولد الصغير على أبيه، لأنّه إذا لزمه أجرة الرضاع فكفايته ألزم، ومن ثمّ أجمعوا على ذلك في طفل لا مال له، وألحق به بالغ عاجز كذلك، لخبر هند بنت عتبة «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».
{وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي ليأمر بعضكم بعضا بجميل في الإرضاع والأجر وغيرهما.
{وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ} أي، وإن ضيّق بعضكم على بعض في الأجرة، أو في الرضاع، كأن تشتطّ الأمّ في الأجرة، أو تأبى الرضاع، أو يشاح الأب في أجرة المثل {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى} الكلام على معنى: فليطلب له الأب مرضعة أخرى، وبذلك يظهر الارتباط بين الشرط والجزاء. وإنما اختير ما في النظم الجليل ليكون فيه نوع من المعاتبة للأمّ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيأبى: سيقضيها غيرك، أي ستقضي وأنت ملوم، ففيه تنبيه على أنّ الأمّ لا ينبغي لها أن تعاسر في رضاع ولدها، فإنّ المبذول من جهتها هو لبنها لولدها، ولبنها غير متموّل، ولا مضنون به في العرف والعادة، وخصوصا من الأم للولد، وليس كذلك المبذول من جهة الأب، فإنّه المال المضنون به عادة، فكانت الأمّ أجدر باللوم، وأحقّ بالعتب.
ودلّ قوله تعالى: {وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى} على أنّها إذا طلبت أكثر من أجر المثل، فللأب أن يسترضع غيرها ممن يرضى بأجرة المثل، إذا قبل الصبيّ ثدي الأجنبية، ولم يحصل له ضرر بلبنها، وإلا أجبرت الأمّ على إرضاعه بأجرة المثل.